تشكّل إفريقيا في عالم تتداخل فيه الجغرافيا بالاستخبارات، بيئة مثالية لتوسّع أذرع الاستخبارات الكبرى، وبالنسبة للموساد، الذراع الطويلة لإسرائيل، كانت القارة السمراء أكثر من مجرد ساحة نفوذ؛ فهي بوابة عمليات، ومنصة تجسس، وحقل اختراق متقدم.
منذ خمسينيات القرن العشرين، وتحديداً بعد استقلال دول شرق إفريقيا، وجدت إسرائيل فرصة استراتيجية للتسلل إلى النسيج السياسي والأمني للمنطقة، ففي أوغندا وكينيا، بدأت علاقات غير رسمية مع القادة الجدد الذين كانوا يبحثون عن دعم خارجي، بعيداً عن النفوذ السوفيتي المتصاعد آنذاك والذي نجح بدعم حركات التحرر الوطني.
في تلك المرحلة، كان الهدف مزدوجاً يسعى إلى كسر الحصار الجيوسياسي العربي حول إسرائيل، ومن جهة أخرى تأسيس شبكة نفوذ عميقة داخل الأنظمة الإفريقية، والوثائق التاريخية تشير إلى تنسيق مبكر مع أوغندا في عهد ميلتون أوبوتي، ومع كينيا قبيل وبعد الاستقلال، حيث قدّمت إسرائيل خبراتها في “الأمن الداخلي” مقابل النفوذ السياسي.
التعاون الأمني والعسكري: تكتيكات التأثير الهادئ
لم تعد العلاقات الأمنية اليوم بين إسرائيل والدول الإفريقية مجرّد تعاون ظرفي، بل باتت جزءاً من استراتيجية دائمة لبناء موطئ قدم استخباراتي واسع النطاق، فالموساد يقود هذه الشبكة من وراء الستار، فالعمود الفقري لهذا النفوذ يعتمد على:
- تدريب الأجهزة الأمنية المحلية، خصوصاً في الدول الهشة أمنياً مثل تشاد وأوغندا ونيجيريا، فوحدات مثل “النمر الأسود” الأوغندية جرى تدريبها بمساعدة خبراء إسرائيليين.
- تقديم تقنيات متقدمة للمراقبة والتجسس، تشمل برامج اختراق الهواتف مثل “بيغاسوس”، التي استُخدمت في كينيا ورواندا والمغرب لرصد معارضين وقادة سياسيين.
- توسيع الحضور الاستخباراتي من خلال الشركات الأمنية، مثل Magal Security وElbit Systems، التي تنشط تحت غطاء مدني لتثبيت أنظمة مراقبة واستطلاع متقدمة في أكثر من 12 دولة إفريقية.
- بناء قواعد عسكرية وتنسيق عمليات ميدانية، كما حدث في شمال تشاد، حيث تم التنسيق مع الوكالة الوطنية للأمن لإقامة قاعدة تعمل كمنصة مراقبة للحدود الليبية ومناطق الساحل.
- تجنيد الحلفاء عبر التعليم والتأهيل حيث تستقطب إسرائيل المئات من الضباط والموظفين الحكوميين الأفارقة إلى معهد الجليل للإدارة، ويحصلون على تدريبات أمنية وإدارية، ويعودون إلى بلادهم ككوادر “صديقة”.
اختراق الأنظمة الإفريقية: تكتيك النخب والشركات
لإسرائيل فلسفة ثابتة في إفريقيا، حيث لا تتعامل مع الدولة، بل مع مفاتيحها، فلا تحتاج تل أبيب إلى اعتراف سياسي كامل بقدر حاجتها إلى نخبة عسكرية أو أمنية حليفة.
هنا يلعب الموساد دوره من خلال أدوات متعددة:
- الحلفاء المحليون من خلال تجنيد مسؤولين في أجهزة الاستخبارات أو القيادات العسكرية الحساسة، سواء عبر التأهيل أو المنح أو حتى عبر “السَّيانيين”، وهم يهود أفارقة أو مقيمون يعملون كوسطاء.
- الشركات الأمنية التي لا تعمل فقط على التزويد بالتقنيات، بل تشكّل غطاءً للعمليات الاستخباراتية وجمع المعلومات وحتى التجنيد الميداني.
- شركات تنموية وهمية، ففي دول مثل النيجر وتشاد، استخدم الموساد واجهات تنموية لتدريب عناصر أمنية وبناء قواعد بيانات حساسة.
- الاختراق المؤسسي فالعديد من الأنظمة الإفريقية تضم اليوم مسؤولين تخرّجوا من مؤسسات إسرائيلية أو تلقوا تدريبات من شركات مرتبطة بالموساد، ما يجعلهم جسورا طبيعية للنفوذ الإسرائيلي.
كينيا – الحليف الشرقي الصامت
من بين النماذج الواضحة، تبقى كينيا حالة دراسية محورية، حيث تربط نيروبي وتل أبيب علاقات أمنية متينة، ولو بقيت بعيدة عن الأضواء، فمنذ الهجوم على السفارة الإسرائيلية في نيروبي عام 2002، تطور التعاون الأمني، وبدأ الموساد بتدريب وحدات مكافحة الإرهاب الكينية وتقديم تقنيات متطورة لمراقبة الجماعات الإسلامية في الشمال.
برنامج “بيغاسوس” استُخدم لمراقبة شخصيات كينية مؤثرة، في حين تم تطوير شبكة مراقبة ميدانية بالتنسيق مع الشرطة الكينية لرصد أنشطة حركة الشباب الصومالية، كما شكّلت كينيا قاعدة عمليات لوجستية للموساد لمتابعة تحركات الجماعات السودانية والإريترية والإيرانية في القرن الإفريقي.
إفريقيا كمنصة إقليمية للتجسس
ترى إسرائيل في إفريقيا، وذلك بغض النظر عن المصالح الثنائية، منصة استراتيجية للتجسس الإقليمي، وهذا التحليل يستند إلى نقاط واقعية:
- التجسس على السودان من خلال تشاد وإثيوبيا، حيث جمعت إسرائيل معلومات دقيقة عن شبكات التهريب والأسلحة المتجهة إلى غزة.
- رصد التحركات الإيرانية حيث يعتبر الموساد شرق إفريقيا منطقة تماس استخباراتي مع الحرس الثوري الإيراني، خصوصاً عبر السودان وإريتريا، ومن هنا، تشكّلت خلايا مراقبة في أوغندا وإثيوبيا.
- مراقبة مصر رغم اتفاقية السلام، فلا تزال إسرائيل تراقب تحركات سيناء عبر شبكة إلكترونية من دول الجوار، بوسائل غير مباشرة.
- التنصت على الخليج فالشركات الإسرائيلية العاملة في إثيوبيا وكينيا استخدمت ترددات الأقمار الصناعية لمراقبة اتصالات ذات صلة بدول الخليج، بما فيها الإمارات والسعودية.
- التأثير في ملفات الهجرة واللاجئين، فعبر معلومات استخباراتية من الدول الإفريقية، تمكّنت إسرائيل من تتبع حركة اللاجئين المتجهين إليها، بل واستخدام تلك البيانات للتفاوض مع الحكومات المعنية.
واقع متشابك من المصالح والاختراقات
ذراع الموساد في إفريقيا ليست طارئة ولا هامشية، بل هي امتداد مدروس لاستراتيجية دولة تبني أمنها القومي عبر أطراف القارة، وهذه الشبكة لا تعمل فقط على التجسس أو تقديم الدعم الفني، بل تقوم فعلياً ببناء حالة نفوذ داخل أجهزة الحكم الإفريقية؛ تجعل من إسرائيل لاعباً صامتاً في معظم ملفات القارة.
وبينما تبدو الأنظمة الإفريقية مستفيدة أمنياً من هذا التعاون، فإن ثمن هذا “الأمان المستورد” هو تبعية استخباراتية يصعب فكها لاحقاً، فلا يحتاج الموساد إلى رفع الأعلام في إفريقيا، فهو يكتفي بزرع العيون والآذان حيث لا تصل الجيوش، فشبكات الموساد لا تقتصر على التدريب والتقنيات والتجسس، بل تنخرط أيضاً في صراعات إقليمية أكثر تعقيداً، لاسيما ضد الخصمين الأكبرين: إيران وحزب الله، القارة الإفريقية تحوّلت إلى ساحة صراع خفية بين أجهزة الاستخبارات، حيث تجري عمليات تصفية، وتفكيك خلايا، وملاحقة تمويلات غير شرعية، وهذا ما سنعالجه في مقال آخر حول “الحروب الخفية: الموساد في مواجهة إيران وحزب الله في إفريقيا”.
بقلم نضال الخضري
يتبع..
علاء مبارك يسخر من دعوة إثيوبيا لمصر لحضور تدشين سد النهضة