13 يوليو 2025

في السلسلة التحليلية حول نشاط الموساد في إفريقيا نغوص في هذه الحلقة مع الحرب الخفية مع إيران، حيث تتداخل الجغرافيا المهمشة بالتكتيكات السرية في زوايا القارة المظلمة.

بعيداً عن صخب الحروب التقليدية، تُخاض معركة صامتة بين عملاقي الاستخبارات: الموساد وفيلق القدس الإيراني، عبر وابل من الاغتيالات والاختراقات والتجنيد، وتتخفى خلف واجهات إنسانية وتجارية برّاقة.

بينما تروي إسرائيل رواية رسميةً عن مكافحة الإرهاب و”حماية استقرار إفريقيا”، تكشف تسريبات استخباراتية غربية حقيقة أكثر قتامة، فهي تنفذ إستراتيجية محكمة لتفكيك البنية التحتية الإيرانية، وتسعى لشلّ تحركات حزب الله، وإسقاط حلفاء طهران في دول الساحل وغرب إفريقيا، وكل ذلك تحت ستار ‘منع التمدد الإيراني”.

القارة كساحة للنفوذ

ليست السنغال ونيجيريا وإثيوبيا وتنزانيا والسودان مجرد أسماء لدول إفريقية، بل هي نقاط ارتكاز في خريطة الاستخبارات الإسرائيلية، فإسرائيل ترى في إفريقيا، خاصةً بعد سقوط نظام البشير في السودان، ساحة اختبار حاسمة لقدرتها على التحكم بالمشهد الإقليمي، والتحدي الأول بالنسبة لها هو إيران.

بدأت طهران منذ التسعينيات بتوسيع وجودها في القارة من خلال شبكات دبلوماسية واقتصادية، لكن نشاطها الحقيقي كان يتم عبر شبكات غير رسمية، تموّلها وتدرّبها “الوحدة 400” التابعة لفيلق القدس، والهدف كان واضحا ويتجلى في إنشاء شبكة قادرة على تنفيذ عمليات ضد أهداف غربية وإسرائيلية، وتسهيل حركة الأموال والسلاح لحزب الله.

في المقابل، دفع هذا التمدد الموساد إلى الانتقال من حالة الرصد إلى حالة الفعل المباشر، وبحسب مصادر غربية تحدثت لصحيفة “التلغراف”، فإن وحدة خاصة داخل الموساد عملت منذ 2019 على تتبع تحركات عناصر حزب الله في دول مثل نيجيريا وغانا والسنغال، بالتنسيق مع أجهزة أمنية محلية.

الموساد يضرب

في السابع من نوفمبر 2021، أحبط الموساد مخططاُ كبيراً لاستهداف رجال أعمال وسياح إسرائيليين في تنزانيا والسنغال، والعملية لم تكن محض صدفة، بل جاءت بعد شهور من الرصد السيبراني، اعتمد خلالها الموساد على أدوات متطورة مثل برنامج “بيغاسوس” لاختراق هواتف المشبوهين، الذين تبيّن لاحقاً أنهم تدربوا في لبنان ضمن شركة يديرها حزب الله.

كما كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” في فبراير 2021 عن تفكيك خلية إيرانية في إثيوبيا مكوّنة من 16 عنصراً، كانت ترصد سفارات إسرائيلية وأميركية وتخزن متفجرات في مخابئ سرية، ومصدر استخباراتي أكد حينها أن الموساد زوّد الإثيوبيين بالمعلومات.

في السودان، حيث تُعد الأرض ممراً لوجستياً حاسماً، نفذت إسرائيل عدة ضربات جوية في الأعوام 2009–2012 استهدفت قوافل أسلحة قيل إنها كانت في طريقها لحماس عبر سيناء، ولكن بغطاء وتسهيل من فيلق القدس.

أدوات الحرب: تكنولوجيا وتنسيق عالمي

لا يعتمد الموساد فقط على العنصر البشري، بل يُفعّل قدراته السيبرانية بالتوازي مع علاقات تنسيقية واسعة مع أجهزة مثل DGSE الفرنسية و CIA الأميركية والمخابرات التشادية، والتعاون مع وكالة الأمن التشادية، على وجه الخصوص، وأتاح للموساد مراقبة النشاط الإيراني في ليبيا، حيث يتحرك فيلق القدس عبر مسارات تهريب تمتد من الساحل إلى طرابلس.

واستخدم الموساد أيضاً واجهات تجارية وسياحية لتغطية نشاطه، بما في ذلك شركات أمن خاصة وشركات سياحة تدار من بغداد ولكن بتمويل إيراني، واستُخدمت هذه الشركات بدورها من قبل حزب الله لتجنيد عناصر من حاملي جنسيات عربية وإفريقية.

إيران بدورها لم تسكت عن نشاط الموساد ضدها، واستخدمت االجالية اللبنانية في إفريقيا، خاصة في السنغال وكوت ديفوار ونيجيريا، لبناء شبكة دعم تمتد من تجارة الألماس إلى شبكات التحويل المالي غير الرسمي، وكما أظهرت وثائق استخباراتية غربية فإن فيلق القدس يدير خلايا نائمة منذ سنوات، ويقوم بتفعيلها عند الحاجة.

ففي جنوب إفريقيا، مثلًا، اُعتقل فلسطيني يُدعى بكر محارمة عام 2018 بتهمة العمل لصالح الاستخبارات الإيرانية وتجنيد عناصر لتنفيذ هجمات داخل إسرائيل، وتعتبر جنوب إفريقيا أرضا خصبة للنشاط الإيراني نظراً لعلاقتها المتوترة مع إسرائيل.

حرب لا توقفها السفارات

المواجهة بين الموساد وفيلق القدس في إفريقيا ليست سوى وجه من وجوه الصراع الأكبر بين إسرائيل وإيران. لكنها، بخلاف باقي الجبهات، أكثر مرونة، وأقل ظهوراً، وأشد تداخلاً مع البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لدول هشّة أصلًا.

الحرب الاستخباراتية في إفريقيا لا تتعلق فقط بصدّ التهديدات الأمنية، بل بإعادة رسم موازين النفوذ العالمي، فلكل عملية اغتيال أو بناء قاعدة أمنية جديدة أو حتى تجنيد ناجح، هناك خرائط سياسية تتغير، وتحالفات تُبنى، ودول تُعاد برمجتها على مقاس اللاعبين الكبار.

ساحل القارة يبدو بعيداً عن تل أبيب أو طهران، لكنه في عمق الاستراتيجية الأمنية لكلٍ منهما والموساد، كما هي عادته، لا ينتظر دعوة رسمية ليحجز مقعده هناك.

في الحلقة الثالثة والأخيرة من هذه السلسلة، سنكشف الوجهَ الخفيَّ لـ”البوصلة الاقتصادية” للموساد في إفريقيا؛ حيث تتحوّل الشركات الإسرائيلية إلى أدوات استخباراتية، وتُختَرق مشاريع التنمية بواجهاتٍ تجارية، وتمتد خيوط التطبيع تحت رمال القارة السمراء.

هنا، بعيداً عن ضجيج العمليات العسكرية، سنفتح الملفَّ الأكثر خطورة: كيف تُحوّل إسرائيل الاقتصادَ إلى سلاحٍ لاختراق العمق الإفريقي، وإعادة تشكيل تحالفات المنطقة من داخل غرف العمليات المالية.”

 بقلم: نضال الخضري

مواضيع متعلقة: ذراع إسرائيل الطويلة: الموساد وشبكات الأمن في إفريقيا (1)

الأمم المتحدة تثني على دور ليبيا في استقبال اللاجئين السودانيين

اقرأ المزيد