26 مارس 2025

احتفى العالم الغربي بالانتخابات البلدية في ليبيا كعلامة على التقدم الديمقراطي، وأغفل الصراعات الكامنة على السلطة والمظالم التاريخية التي أخفتها هذه الانتخابات، وتعبر تاورغاء كبلدة صغيرة عن هشاشة “ديمقراطية ليبية”.

أصبحت مدينة تاورغاء ساحة معركة خلال الانتفاضة التي دعمها حلف شمال الأطلسي ضد معمر القذافي، وتم اتهام سكانها، الذين دعم العديد منهم النظام السابق، من قبل ميليشيات مصراتة المجاورة بمساعدة قوات القذافي في ارتكاب الفظائع، وعندما خرجت مصراتة منتصرة في نهاية المطاف، دفعت تاورغاء ثمناً باهظاً، حيث تم إخلاء البلدة بأكملها قسراً، ما أدى إلى نزوح حوالي 40 ألف من السكان، حيث عاش العديد من سكان تاورغاء في مخيمات مؤقتة في ظروف مزرية.

في عام 2018، تم التوصل إلى مصالحة هشة تحت إشراف دولي، وسُمح لبعض السكان بالعودة إلى مدينتهم المدمرة، ومع ذلك، لم يجد العائدون أكثر من الأنقاض والإهمال، وكانت جهود إعادة الإعمار ضئيلة، مع انعدام الخدمات الصحية والمرافق التعليمية تقريباً، ولم تكن آثار الحرب في دمار المدينة فقط، بل كانت متجذرة بعمق في النسيج الاجتماعي، حيث استمر انعدام الثقة والاستياء بين المجتمعين.

حاضر مدينة تاورغاء

في عام 2024 أصبحت تاورغا مسرحاًً جديدا للصراع السياسي، حيث أثار عبد الحميد الدبيبة، رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولابة، وهو بالأساس من مصراتة، التوترات بمحاولة ضم تاورغاء كبلدية فرعية تحت السيطرة الإدارية لمصراتة، وأثارت هذه الخطوة التي ينظر إليها الكثيرون على أنها تأكيد على الهيمنة وليس لفتة وحدة، غضباً بين سكان تاورغاء وممثليهم.

وكان عضو مجلس النواب عن تاورغاء، جاب الله الشيباني، من أشد المنتقدين لهذا القرار، ووصفه بأنه عمل إجرامي يتحدى حكماً صادراً عن محكمة استئناف طرابلس، التي ألغت في وقت سابق ضم تاورغاء، وكان قرار المحكمة يهدف إلى دعم الاستقلال الإداري لتاورغاء، لكن حكومة الدبيبة، بالتنسيق مع المجلس البلدي في مصراتة، تجاهلت الحكم وعينت قائداً محلياً لفرع تاورغاء دون مبرر قانوني.

ويُنظر إلى هذا التعيين، الذي تم تحت رعاية عمدة مصراتة محمود السقطري، على أنه تجاهل صارخ لسيادة القانون، ويرى سكان المدينة أنه استمرار لإخضاعهم وليس خطوة نحو المصالحة، فهذا الضم يقوض مبادئ الحكم المحلي ويؤدي إلى تآكل الثقة في النظام القضائي الليبي، الذي كافح لتأكيد سلطته في مشهد تهيمن عليه الميليشيات والفصائل السياسية.

صراع على السلطة

تسلط هذه اللعبة الضوء على قضية أوسع نطاقاً في السياسة الليبية، فوجود القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية في أيدي النخب المحلية خلق امتداداً لنفوذ مصراتة، باعتبارها قوة تجارية وعسكرية، إلى ما هو أبعد من حدودها الإدارية، في وقت مول الدبيبة ميليشيات مصراتة أثناء الحرب الأهلية، وارتبط صعوده السياسي بهيمنة المدينة التي سعت لوضع تاورغاء تحت سيطرتها، بينما تعمل حكومة طرابلس على ترسيخ تفوق المدينة، الأمر الذي يثير المخاوف من أن تواجه البلديات الأخرى الأصغر أو الأضعف مصيراً مماثلاً.

ويثير توقيت الضم المزيد من الشكوك، فهو جاء بعد وقت قصير من إجراء الانتخابات البلدية في أجزاء أخرى من البلاد، باستثناء تاورغاء، ولم يُسمح للسكان بالتصويت بشكل مستقل أو كجزء من مصراتة، الأمر الذي حرمهم فعلياً من حقهم في الحكم الإداري على مدى السنوات الأربع المقبلة، ويقوض هذا الاستبعاد أي فكرة عن التمثيل العادل، الأمر الذي يجعل سكان تاورغاء يشعرون بالحرمان السياسي.

البعد الاقتصادي

يمكن النظر إلى المسائل الاقتصادية كعامل وراء عملية ضم تاورغاء إلى مصراتة، فالمسافة القريبة بين المدينتين يجعل تاورغاء منطقة استراتيجية لتوسيع المنطقة الحرة في مصراتة، وهي مركز تجاري يمكن أن يدفع استثمارات كبيرة، ومن شأن عملية الدمج تسهيل إجراءات الاستحواذ على الأراضي ومشاريع البنية الأساسية دون الحاجة إلى موافقة السكان المحليين، فالضم لا يتعلق بالمصالحة بل بالاستغلال الاقتصادي.

عمليا ًفإن الوضع في تاورغاء يجسد تعقيدات انتقال ليبيا بعد القذافي، ففي حين يؤكد المجتمع الدولي على الانتخابات باعتبارها معلماً ديمقراطياً، فإن الواقع على الأرض غالباً ما تمليه صراعات القوة والتحالفات القبلية والمصالح الاقتصادية، وتعكس تصرفات حكومة الدبيبة نمطاً أوسع من الحكم، حيث يتم تجاهل القرارات القضائية، وتعمل المجالس المحلية كأدوات لتعزيز الوضع السياسي.

كما تثير هذه القضية تساؤلات حول فعالية عمليات المصالحة في ليبيا، حيث تم الترحيب بالاتفاق المبرم عام 2018 بين تاورغاء ومصراتة باعتباره نموذجا ًلحل النزاعات المجتمعية، إلا أن هشاشته توضح إن المصالحة الحقيقية تتطلب أكثر من مجرد اتفاقيات رمزية؛ فهي تتطلب احترام المجتمع المحلي، واستقلال القضاء، والتنمية العادلة.

غياب الحوكمة

تواجه هيئة الرقابة الإدارية، التي تشرف على امتثال الحكومة للأحكام القضائية، اختباراً صعباً وسيحدد ردها على قضية تاورغاء ما إذا كانت قادرة على تأكيد سلطتها أو الخضوع لنفس الضغوط السياسية التي أضعفت المؤسسات الأخرى، وبالنسبة للعديد من الليبيين، فإن النتيجة ستكون بمثابة تحد حقيقي للمؤسسات الليبية في مسألة سيادة القانون.

قضية تاورغاء هي تجذر قوي لكل ما يرتبط بالديمقراطية الهشة فالاي ليبيا، حيث تؤكد على الحاجة إلى ضرورة النظر لما هو أبعد من صناديق الاقتراع، وقراءة الديناميكيات الأساسية للسلطة، فالانتخابات، على أهميتها، ليست حلاً سحرياً، وبدون إصلاح المؤسسات، واحترام الأحكام القضائية، وتمكين السكان المحليين، فإن ليبيا تخاطر بالتحول إلى دولة يتم تقليص الديمقراطية فيها إلى مجرد إجراءات شكلية، ما يخفي ميولاً استبدادية أعمق.

بقلم نضال الخضري

ليبيا والسودان تتصدران جدول أعمال اليوم الثالث للقمة الإفريقية في أديس أبابا

اقرأ المزيد