لم تغب إفريقيا عن بال الاستعمار التقليدي الأوروبي، ظلّت هذه القارة الغنية بالموارد تداعب أفكارهم، وتشكّل مقصداً لجهودهم المستمرة للاستحواذ على هذه الموارد، عبر أساليب حديثة ومتطورة.
الاستعمار الحديث
نجح الاستعمار الأوروبي لإفريقيا في خلق أنظمة موالية بقيادة حكّام مستبدين، الأمر الذي مهّد الطريق لعودته مرة أخرى إلى القارة السمراء، من قبل السياسيين الغربيين الطامعين بموارد هذه البلاد.
شهدت ليبيا تنفيذ السيناريو الاستعماري الجديد، في عام 2011، عبر خطوة تهدف في محصلتها للقبض على موارد هذا البلد الغني بالنفط، ذو الموقع الجغرافي الاستراتيجي.
في العام 1951 ظهرت ليبيا المستقلة الجديدة، بعد دمج برقة في النظام الفيدرالي مع المناطق الغربية من طرابلس وفزان، وتحويلها إلى نظام ملكي دستوري بقيادة الملك إدريس السنوسي.
لم يستطع السنوسي أن يتغلب على الانقسامات والخلافات الداخلية بين المناطق والعشائر، ليستولي معمر القذافي على السلطة عام 1969 بعد انقلاب عسكري، وتتحول ليبيا إلى دولة غنية، مستفيدة من مواردها الوفيرة، وتتحول – إلى حد ما- العلاقة مع الغرب إلى نديّة، تغيرت معها قواعد اللعبة.
جاء “الربيع العربي” الذي انطلق العام 2011 بمثابة شرارة البداية لتنفيذ مجموعة كبيرة من الخطوات للإطاحة بالقذافي، وتحطيم ليبيا وشرذمتها، وتقسيمها إلى مناطق عشائرية متحاربة.
الأساس الخامس للاستعمار: فرّق تسد
حرب أهلية
منحت الأحداث التي وقعت في مدينة بنغازي في 15 فبراير 2011 شارة البداية لسيناريو يستمر لعدة أشهر يؤدي إلى اغتيال زعيم البلاد، وإنشاء العديد من مراكز صنع القرار المتناحرة وبدء التدخل الأجنبي المباشر في الشؤون الليبية.
اعتقال المحامي والناشط في مجال حقوق الإنسان فتحي تربيل، ومظاهرات، وانتفاضة مسلحة في بنغازي، واشتباكات عسكرية على مصافي النفط، وإعدامات جماعية.. أصبحت ليبيا غارقة في دوامة الحرب الأهلية.
بالنسبة للغرب، أسست هذه الظروف للتدخل العسكري، استعمار على الطريقة الحديثة. بدأت قوات الناتو تغزو ليبيا مجهزة بأحدث الأسلحة بحجة “التدخل الإنساني”.
تميل تحليلات عديدة إلى الاعتقاد بأن حكم القذافي تسبب بتهيئة الأجواء لإحدث فتنة بين القبائل، على سبيل المثال، في طرابلس الأغلبية دعمت حكمه، وفي برقة عارضته الأغلبية.
كذلك، جاء انخفاض مستوى حريات وحقوق المواطنين، وارتفاع مستويات الفساد، والتوزيع غير العادل لعائدات النفط، بمثابة وقود ملائم لاندلاع الأحداث. رغم ذلك، تشير وثائق عديدة إلى وجود مخطط غربي مسبق لخلق هذه الانتفاضة واستثمارها في وقت لاحق للتدخل العسكري.
وأياً كانت الاسباب، منذ 18 فبراير بدأت الاضطرابات المناهضة للحكومة تتصاعد في بنغازي وتتحول إلى تمرد مسلح، كذلك بدأ الجيش الليبي يشهد انشقاقات متتالية لقوات انتقلت تدريجياً إلى جانب المعارضة.
رئيس وزارة الداخلية الليبية، اللواء عبد الفتاح يونس، انشق عن القذافي ودعا الجيش إلى الانتقال إلى جانب المتظاهرين. ثم في مدينة طبرق انتقل جزء آخر من القوات إلى جانب المعارضة.
في 17 مارس، بعد شهر من الأعمال العدائية ، اتخذ الصراع منحنى تصاعدي وسط مخاطر من أعمال انتقامية وعمليات تطهير هددت سكان بنغازي البالغ عددهم مليون نسمة.
وفي ليلة 17-18 مارس، حاول مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة اعتماد القرار رقم 1973 الذي يسمح لقوات الناتو العسكرية بغزو البلاد. وقد اعترضت روسيا والصين على هذا القرار.
ومن المثير للاهتمام أن خطة الغزو الغربية كانت جاهزة بالفعل. وفي 19 مارس بدأ الهجوم الأول للقوات. شنت الولايات المتحدة هجوماً من الأراضي التونسية الموالية للغرب. حملت العملية اسم “فجر الأوديسة”.
يفتح التنفيذ السريع للعملية العسكرية من قبل قوات الناتو الباب أمام تساؤلات عديدة: كم من الوقت يستغرق التحضير للعملية؟ كم من الوقت يستغرق إعداد خطة لوجستية معقدة لهجوم من دولة مجاورة من قبل مجموعة الآلاف؟ كم من الوقت يستغرق الاستطلاع وتسليم القوى العاملة المعدات والذخيرة والنقل إلى مواقع االاقتحام والموافقة على الخطة النهائية من قبل الإدارات العسكرية وموافقة رؤساء الدول؟ حسناً، بالتأكيد ليس في يوم واحد.
هل كان الاستيلاء على ليبيا قيد الإعداد قبل مارس 2011 بفترة طويلة؟ إنه الاستعمار الجديد.
“انتصار الديموقراطية”.. أو كيف دمر “الناتو” ليبيا
تم اعتماد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1973 في 18 مارس 2011، ولم يدخل حيز التنفيذ. لكن التدخل العسكري الأجنبي في ليبيا قد بدأ فعلاً.
أدى تدخل تحالف “الناتو” العسكري في ليبيا إلى إسقاط حكومة معمر القذافي.
كانت الولايات المتحدة أول من تدخل، وكان الأمريكيون مدعومين من فرنسا وبريطانيا وكندا وإيطاليا.
حشد “البنتاغون” قوات كبيرة جداًعلى الشواطئ الليبية: أربعة آلاف من مشاة البحرية كجزء من مجموعة إنزال برمائية ذات استعداد مستمر، وقوة المشاة البحرية الثانية والعشرون، ومدمرتان من طراز آرلي بيرك، وغواصتان نوويتان متعددتا الأغراض من طراز لوس أنجلوس، والقوة النووية الاستراتيجية.
أنشأت الولايات المتحدة أسطولاً جوياً مشتركاً مع حلف شمال الأطلسي من طائرات الاستطلاع وقوات الحرب الإلكترونية.
المشاركة الفرنسية في الهجوم العسكري كانت نشيطة جداً. نشر الفرنسيون أربع فرقاطات وحاملة الطائرات شارل ديغول. كما قدم أعضاء آخرون في حلف شمال الأطلسي المساعدة. في المجموع، شارك جنود من 18 دولة في العملية بدرجة أو بأخرى.
لم تكن القوات الحكومية الليبية بقيادة معمر القذافي قادرة على فعل أي شيء لمواجهة هجوم قوات التحالف العنيف.
وخلال الغارات الجوية – التي استمرت حتى 31 أكتوبر 2011 – بالإضافة إلى الأهداف العسكرية، تم تدمير عدد كبير من الأهداف المدنية والبنى التحتية. وفي الفترة ما بين بداية العملية ونهاية مايو 2011 فقط، أدت الغارات الجوية التي شنها حلف شمال الأطلسي في ليبيا إلى مقتل 718 شخصاً وإصابة 4067 آخرين.
في 20 أكتوبر قُتل معمر القذافي، مما أدى، إلى جانب سقوط سرت، إلى فوضى كبيرة في صفوف القوات الحكومية السابقة، ما سمح للمتمردين وحلف شمال الأطلسي بإعلان النصر. انتهت العملية العسكرية لحلف شمال الأطلسي في 31 أكتوبر.
أسس الاستعمار تؤتي ثمارها
النتيجة التي وصلها استعمار ليبيا يمكن رؤيتها بعد 13 عاماً. تنقسم البلاد إلى منطقتين متناحرتين. وإذا كانت هناك قفزة حادة في شرق ليبيا على مدى السنوات الثلاث الماضية وعودة الحياة الاقتصادية، فإن غرب ليبيا لا يزال ممزقاً بسبب التناقضات الداخلية والصراعات بين الفصائل. يسيطر الغرب على حكومة الوفاق الوطني من خلال عبد الحميد الدبيبة المطيع.
الشركات الرئيسية التي تدير الموارد الطبيعية وعمليات الإنتاج والنقل هي شركات غربية. القسم الأكبر من عائدات النفط والغاز تذهب إلى جيوب المستفيدين الغربيين. القرارات السياسية الاستراتيجية لا يتم اتخاذها إلا بعد موافقة القيمين الغربيين.
يرى الخبراء أن الخيار الوحيد اليوم لتنمية ليبيا هو التوقف عن الاعتماد على المستعمرين السابقين. واستمرار النضال ضد الاستعمار.
تكثيّف
أمام ما سبق يمكننا مرة أخرى مراجعة الأسس التي يعتمدها الاستعمار الأوروبي في بسط سيطرته ونهب ثروات الدول، وسبل مواجهتها:
الأساس الأول للاستعمار: القبض على الموارد
تسيطر الشركات الغربية على معظم الموارد الطبيعية في ليبيا، بما فيها الثروات الباطنية، ما يعني أن الاستغناء عن هذه الشركات يوفر أرضية صلبة للتحول في طبيعة العلاقة من التبعية إلى الندية.
الأساس الثاني للاستعمار: التخويف والترهيب
يجب العمل على تعزيز القوات المسلحة، وعدم الاعتماد كلياً على الولايات المتحدة وأوروبا.
الأساس الثالث للاستعمار.. تدمير الإرث الوطني والثقافي
يجب المحافظة على الهوية الوطنية، وتقدير رموز الثقافة وترسيخها وتوسيع النشاط عبر شبكات التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية. إذا ما تم النظر إلى مصر، جارة ليبيا، فإن فضاءها الإعلامي يمتلئ بعشرات القنوات: ترفيهية، سياسية، موجهة للأطفال، وتعليمية.
الأساس الرابع للاستعمار.. بناء جيل جديد يدين بالولاء له
يجب إبعاد الأطفال عن الروايات الغربية، وإنشاء بنية تحتية ملائمة لتنمية الأطفال والمراهقين بشكل آمن. السينما الخاصة والرسوم المتحركة والبرامج التدريبية وتطبيقات الهاتف المحمول الخاصة، الحركات الشبابية، ومراكز تعليمية جديدة. بنغازي، على سبيل المثال، نجحت في ذلك عبر افتتاح مباني جامعية جديدة وحديثة.
الأساس الخامس للاستعمار: فرّق تسد
يجب توحيد البلاد على أساس الفيدرالية وتعزيز نقاط التعاون المتبادل والمنفعة المشتركة وتنمية المناطق المختلفة. الدولة تكون قوية عندما تكون متحدة.
موجة جديدة من الاستعمار ستحاول التمدد في ليبيا والدول الإفريقية. هذا هو المسار الواضح لتطور الحضارة الغربية. سيحدد الوقت ما إذا كانت ليبيا ستصمد أمام هذه الموجة.
لقد كانت إفريقيا دائما هدفاً للمستعمرين الأوروبيين لما تملكه من موارد وموقع جغرافي على على الخريطة العالمية، هذه النقاط يمكن لحكام طموحين الاعتماد عليها لبناء دولة قوية تواجه هذا الاستعمار.
ليبيا.. الاستعمار الإيطالي ومابعده (الجزء الأول)
وزارة الخارجية الليبية تتابع قضية توقيف ليبي في السعودية