في تصعيد حاد ثم هدوء مفاجئ، شهدت العاصمة الليبية طرابلس واحدة من أكثر اللحظات المفصلية في صراع الميليشيات خلال السنوات الأخيرة، في غضون ساعات، انتهت مواجهات دموية باغتيال عبد الغني الككلي، المعروف بـ”غنيوة”.
غنيوة الذي كان يقود جهاز دعم الاستقرار، لم يُقتل في معقله بأبو سليم بل داخل معسكر اللواء 444، وخلال اجتماع أمني تحوّل إلى معركة، وهذا التفصيل وحده كافٍ لنزع أي غموض عن طبيعة العملية: تصفية محكمة لا اشتباك عرضي، وإعادة رسم التوازنات الأمنية ما بين الميليشيات وحكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية.
وقع الحدث خلال اجتماع مشحون حضره وزير الداخلية (عن الزنتان)، ونائب وزير الدفاع (عن مصراتة)، والككلي نفسه، وانتهى اللقاء بمقتله ومرافقيه، وخرج خصومه منتصرين، لتُعاد خريطة السيطرة في العاصمة بطريقة صادمة، لكن محسوبة.
الكمين الذي أنهى “رجل الظل“
كان الككلي من بين أقوى الشخصيات على الأرض في غرب ليبيا، لكنه لم يكن الأهم وحده، فشخصيات مثل “كارا” (عبد الرؤوف كارة)الذي بدأ نشاطه بتشكيل كتيبة النواصي، ولاحقاً أسس “قوة الردع الخاصة” واتخذ من قاعدة معيتيقة مقراً له، غير أن الككلي، خلال السنوات الماضية نجح في بناء سلطة تنفيذية موازية تجاوزت مجرد “الميدان”.
هيكل تنظيمه كان رسمياً، ينضوي تحت “جهاز دعم الاستقرار” التابع مباشرة للمجلس الرئاسي، أي أنه نظرياً كان يخضع لمحمد المنفي، رئيس المجلس، لكن نفوذه امتد إلى أبعد من ذلك، عبر شبكة عميقة داخل مؤسسات حكومة عبد الحميد الدبيبة.
يده اليمنى، لطفي الحرايري، كان رئيس جهاز الأمن الداخلي حتى يوم مقتله، ومساعده الثاني هو أسامة طليش، وترأس جهاز أمن المرافق. أما محمد المشاي، أحد أقرب رجاله، فما يزال رئيس مجلس إدارة الشركة العامة للكهرباء،وهذه الشبكة ليست مجرد عصابة تقليدية، بل مافيا مؤسسية متداخلة في أجهزة الدولة.
عندما وصف أهالي مصراتة هذا الكيان، بعد مقتل غنيوة، بأنه “أكبر عصابة في ليبيا”، لم يكن ذلك تضخيماًبل حقيقة جزئية لأن هذه “المجموعة” ضمّت أيضاً أسماء في أعلى هرم السلطة.
اغتياله لم يكن انفجاراً مفاجئاً، بل نتيجة تراكمات وخلافات مع الفصائل المسلحة المتحالفة مع الحكومة، تحديداً من مصراتة والزنتان،والككلي كسر قواعد اللعبة عندما حاول الاستفراد بالسلطة الاقتصادية والعسكرية، خصوصاً بعد تدخله في ملف شركة الاتصالات، وهو ما فجر رداً مدمراً أنهى حياته ومسيرته.
السيطرة بعد الانفجار
خلال ساعات من مقتله، سيطرت القوات الحكومية والميليشيات المتحالفة مع الدبيبة على كل مقار جهاز دعم الاستقرار، بما فيها سجن القضائية ومعسكر النقلية ومقر الأمن الخارجي، وسقطت منطقة أبو سليم بالكامل، ومعها اختفت قبضة “الغنيوات” عن المدينة.
وأعلن وزير الدفاع انتهاء العملية بنجاح، فيما اعتبرها الدبيبة “خطوة حاسمة نحو ترسيخ سلطة الدولة”، لكن واقع طرابلس يخبرنا بعكس ذلك، فالميليشيات التي أطاحت بالككلي ليست قوات نظامية، بل قوى مسلحة تتخفى بغطاء الشرعية الحكومية، وتمارس السلطة عبر السلاح والابتزاز.
التساؤلات بعد الهدوء
الأسئلة الكبرى لا تتعلق فقط بمَن قتل الككلي، بل بما سيأتي بعده، فمن سيتولى ملفات غنيوة؟ على الأخص أنه كان يمسك بملفات مرتبطة بالهجرة والاتجار وبالاعتقالاتوبشحنات الأموال، من جانب آخر فإن “غنيوة” كان مسؤولاً بشكل غير رسمي عن تأمين نقل السيولة ومرافقة شحنات البنك.
الأمر الأخطر هو صورة المجلس الرئاسي، لأن الغطاء الرسمي لجهاز دعم الاستقرار كان يأتي من أعلى مستويات الدولة، ومع انكشاف شبكته، يبدو المجلس الرئاسي والدبيبة متورطين بالصمت على الأقل، أو بالشراكة الفعلية.
هل تنتصر الدولة أم الميليشيات المقنّعة؟
بيانات الحكومة تتحدث عن عودة الدولة وسيادة القانون، لكن الوقائع تشير إلى استبدال زعيم بزعماء، و”عصابة” بشبكة أشمل، والفصائل التي أطاحت بغنيوة تحظى بدعم سياسي وعسكري، لكن لا شيء يضمن ولاءها طويلاً، ولا التزامها بمبدأ الدولة، أما الحديث عن العدالة والمحاسبة، فهو أقرب إلى الوهم، في غياب قضاء مستقل ومؤسسات محايدة، والمشهد الليبي لم يُنتج غنيوة صدفة، بل أنتجه عنف متراكم، وغياب الدولة، وفساد السلطة فيغرب ليبيا.
سقط غنيوة، لكن الحرب على ما خلفه بدأت للتو، والفراغ لا يُملأ إلا بصراع جديد، وما لم يتم البدء بتفكيك شبكات السلاح والمال المرتبطة بالحكومة نفسها، فإن كل محاولة لإعادة بناء الدولة ستظل حبرا على ورق، في انتظار “غنيوة جديد” بلغة وشكل مختلفين.
بقلم: نضال الخضري
معهد أمريكي: الصراع في ليبيا يتحول من ساحات القتال إلى السيطرة على المؤسسات