11 فبراير 2025

في تحول مفاجئ للأحداث، قدم رئيس المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا، فرحات بن قدارة، استقالته مبرراً ذلك بـ “ظروف صحية”، ورغم أن المؤسسة الوطنية للنفط اعتبرت المسألة شخصية، لكنها ستحمل آثاراً بعيدة المدى على قطاع النفط الليبي.

فرحات عمر بن قدارة، من مواليد بنغازي في 27 سبتمبر 1965، سياسي ومصرفي ليبي بارز، حصل على بكالوريوس في الاقتصاد من جامعة بنغازي، ثم نال درجة الماجستير في اقتصاديات البنوك من جامعة شيفيلد في المملكة المتحدة، بدأ مسيرته المهنية كنائب لمحافظ مصرف ليبيا المركزي من عام 2000 حتى 2006، ثم تولى منصب المحافظ من 2006 إلى 2011، خلال هذه الفترة، ساهم في تطوير النظام المصرفي الليبي وتعزيز الاستثمارات الأجنبية، مما أثر إيجاباً على الاقتصاد الوطني، وفي يوليو 2022، تم تعيينه رئيساً للمؤسسة الوطنية للنفط، حيث ركز على زيادة الإنتاج وتطوير البنية التحتية للقطاع النفطي، واجه تحديات تتعلق بتهالك خطوط النقل والمحطات، وسعى لجذب استثمارات بقيمة 17 مليار دولار لرفع الإنتاج إلى مليوني برميل يومياً خلال خمس سنوات، وفي يناير 2025، قدم بن قدارة استقالته.

قدمت هذه الاستقالة صورة عن الديناميكية السياسية الأوسع نطاقاً المحيطة برئيس الوزراء المنهية ولايته، عبد الحميد الدبيبة، الذي أوضح أنه ينوي وضع قطاع النفط تحت سيطرته بشكل مباشر، فالحكومة تحركت بسرعة لتعيين بديل مؤقت هو مسعود سليمان موسى، عضو مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط، إلى أن يتم تشكيل قيادة دائمة جديدة في اجتماع مجلس الوزراء القادم.

ورغم أن البيان الرسمي يتحدث عن استقالة عادية لها ظروفها الخاصة، لكن في خلفية ما حدث هناك تيارات سياسية كامنة، فالإعلان عن الاستقالة أثار تساؤلات كثيرة: فهل تنحى بن قدارة لأسباب صحية، أم أن هناك المزيد من التفاصيل في هذه القصة؟ فالمصدر الرسمي كان مجهول الهوية ما يشير إلى قضايا أعمق وراء هذا الحدث وأن رحيل بن قدارة ربما لم يكن طوعياً تماماً.

النفوذ المتزايد لعبد الحميد الدبيبة

كان قطاع النفط الليبي ساحة معركة بين فصائل مختلفة، فكل منها يتنافس على السيطرة على أكثر موارد البلاد قيمة، ولأن ثروة ليبيا مرتبطة إلى حد كبير بصادراتها النفطية التي تمثل ما يقرب من 97% من إيرادات الدولة القادمة من الخارج، فإن السيطرة على قطاع النفط تعادل السيطرة على اقتصاد البلاد ومستقبلها السياسي.

اتخذ الدبيبة، الذي تولى قيادة حكومة الوحدة الوطنية في أوائل عام 2021، خطوات كبيرة لتأمين قطاع النفط تحت نفوذه، وأكد بشكل دائم على دوره في حماية موارد النفط الليبية من التدخل السياسي، وقدم نفسه كقوة استقرار في دولة مزقتها الانقسامات السياسية، لكن استقالة بن قدارة وتهميش مسؤولين نفطيين رئيسيين آخرين، مثل وزير النفط محمد عون، يشير إلى رواية مختلفة، حيث يعزز الدبيبة السيطرة على صناعة النفط الليبية، حيث أعلنت الحكومة الليبية إقالة وزير النفط محمد عون في 6 يونيو 2024 على خلفية اتهامات بارتكاب مخالفات قانونية أضرت بالمصلحة العامة، وشهدت الفترة الأخيرة تصاعد الخلافات بين عون ورئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، خاصة بعد تكليف الأخير لوكيل الوزارة بتسيير مهام الوزير، ما أدى إلى تداخل في الصلاحيات، كما عارض عون عدة صفقات نفطية بارزة أبرمتها الحكومة مع شركات أجنبية، أبرزها اتفاقية مع شركة “إيني” الإيطالية، ورغم حصول عون على أحكام قضائية بإعادته إلى منصبه، رفضت الحكومة تنفيذها، وسط تحليلات تشير إلى أن القرار جاء في إطار تصفية حسابات سياسية للسيطرة على قطاع النفط الحيوي.

كما تشير المشاركة الشخصية المتزايدة للدبيبة في مفاوضات النفط، وخاصة مع الشركات الأمريكية، إلى أنه يحاول إزالة الذين تمتعوا ذات يوم بدرجة من الاستقلال داخل قطاع النفط من المشهد، واستقالة بن قدارة تؤكد هذه الرواية بشكل غير مباشر، لأنها تمهد الطريق بشكل عملي للدبيبة لممارسة سلطة أكبر على المؤسسة الوطنية للنفط وقطاع النفط بشكل عام.

معركة السيطرة على موارد النفط الليبية

منذ ثورة 2011 دخل قطاع النفط في ليبيا مساحة المنافسة السياسية، حيث سعت فصائل مختلفة إلى التأثير على إدارة ثروة البلاد النفطية، وركزت بعض المجموعات بشكل أكبر على الحفاظ على سيطرة الدولة، بينما حاولت مجموعات أخرى خصخصة أجزاء من القطاع لتحقيق مكاسبها الخاصة، وعلى امتداد عقد ونصف شغل العديد من الشخصيات البارزة مناصب قيادية في المؤسسة الوطنية للنفط، وواجهوا ضغوطا سياسية كبيرة من الفصائل المتنافسة.

عمليا تميزت فترة ولاية بن قدارة في المؤسسة الوطنية للنفط، التي بدأت في عام 2020، بجهوده للحفاظ على استقلالية المؤسسة، وذلك على الرغم من الضغوط السياسية الشديدة المحيطة به، وخلال ترأسه هذه المؤسسة حاول الموازنة بين مطالب الحكومة المركزية والميليشيات المحلية، كما تعامل مع شركات النفط الأجنبية، لكن رئاسته لقطاع النفس أثارت الجدل في بعض الأحيان، فخلال خريف عام 2022، واجه هجمات متزايدة من شخصيات سياسية متحالفة مع حكومة الدبيبة، ما أثار الشكوك حول الدوافع الكامنة وراء إقالته.

كانت المؤسسة الوطنية للنفط وبشكل دائم مساحة مفتوحة للتدخل السياسي، لكن بن قدارة استطاع تحقيق الاستقلال النسبي لها، وكان يقاوم المركزية المتزايدة للسلطة من قبل الدبيبة، وتشير استقالته إلى تحول نحو نهج أكثر مركزية لإدارة قطاع النفط، وذلك بالتوازي مع تولي الدبيبة دورا أكبر في المفاوضات وعمليات صنع القرار.

النفوذ الأجنبي

تأتي استقالة بن قدارة أيضاً في وقت كثف فيه الدبيبة جهوده لجذب المستثمرين الأجانب، وخاصة شركات النفط الأميركية، فالمفاوضات المباشرة التي أجراها الدبيبة مع الشركات الأميركية، بما في ذلك إمكانية إبرام اتفاقيات جديدة، تشير إلى أنه يضع نفسه كصانع قرار رئيسي في قطاع النفط، ويثير هذا الأمر التساؤل حول ما إذا كانت إزالة بن قدارة وغيره من الشخصيات المستقلة خطوة استراتيجية لإزالة أي عقبات أمام هذه الشراكات الأجنبية المربحة، فمن خلال تعزيز السيطرة على قطاع النفط يسعى الدبيبة إلى تقديم جهة واحدة للمستثمرين الدوليين، وضمان إدارة ثروة النفط الليبية وفقاً لرؤيته.

إن مشاركة الدبيبة شخصياً في هذه المفاوضات مع الشركات الأميركية تشير أيضاً إلى تهميش الدور التقليدي للمؤسسة الوطنية للنفط ككيان مستقل مسؤول عن إدارة صناعة النفط، وهذه السياسة الهادفة إلى السيطرة المباشرة ستثير التوتر لدى جميع الفصائل داخل ليبيا، وخاصة الذين طالما نظروا إلى المؤسسة الوطنية للنفط باعتبارها رمزاً للسيادة الوطنية، فصناعة النفط تلعب دوراً محورياً في تشكيل المشهد السياسي، ومع تولي الدبيبة دوراً أكثر مباشرة في الإشراف على القطاع، فإن توازن القوى داخل الحكومة سيتحول بشكل كبير.

أحد المخاطر الأساسية في مسألة تمركز قطاع النفط في يد الدبيبة هو زيادة التدخل الأجنبي الذي سيكون له عواقب، فرغم أنه سيسهل من الاستثمار الأجنبي وإعادة بناء البنية التحتية النفطية في ليبيا، لكنه سيعمق الانقسامات السياسية، حيث سيزيد من تتنافس الأطراف السياسية المختلفة للسيطرة على الأصول الأكثر قيمة في ليبيا.

استقالة فرحات بن قدارة من منصبه كرئيس للمؤسسة الوطنية للنفط تشكل تطوراً كبيراً في الصراع الدائر للسيطرة على قطاع النفط في ليبيا، فالسبب الرسمي لرحيله يتعلق بمسألة شخصية، لكن السياق السياسي الأوسع يشير إلى محاولات عبد الحميد الدبيبة للسيطرة على الموارد الأكثر قيمة في ليبيا، وبينما يتفاوض دبيبة بشكل مباشر مع الشركات الأجنبية ويتحرك لإزالة الشخصيات المستقلة من قطاع النفط، فإن مستقبل ثروة النفط في ليبيا، والاستقرار السياسي في البلاد، معلق في الميزان.

بقلم نضال الخضري

ليبيا.. اتفاق مبدئي بين مجلسي النواب والدولة على حل أزمة البنك المركزي

اقرأ المزيد