يمثل قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالسماح للهيئة الليبية للاستثمار بإدارة أصولها المجمدة حدثاً يحمل أملا ًضعيفاً في مواجهة مخاوف عميقة بين المراقبين الدوليين والاقتصاديين والمواطنين الليبيين.
رغم الترحيب بالقرار باعتباره خطوة نحو تمكين ليبيا، إلا أنه أثار هواجس مشروعة بشأن الشفافية والحوكمة والاستغلال الخارجي، وطرح قلقاً متزايداً ظهر بامتناع روسيا عن التصويت نتيجة الطبيعة الهشة لهذا القرار.
ويطال تجميد الأصول الليبية حوالي 150 مليار دولار، وهذا يدفع المتحمسين له للحديث عن إعادة الإعمار، تمكين المؤسسة الليبية للاستثمار من إدارة أصولها هو من جانب آخر تأكيد رمزي على سيادة ليبيا، لكن المشهد الدولي المحيط بليبيا إضافة لأزماتها الداخلية يجعل الحذر من إلغاء واقعاً حقيقيا ًنتيجة التحديات التي سترافق تحرير هذه الودائع.
المخاوف تفوق الآمال
تزامن قرار مجلس الأمن مع ما أصدرته محكمة الاستئناف في بروكسل بإزالة الحجز عن أصول ليبية تُقدر بـ15 مليار يورو محتجزة في بنك يوروكلير ببلجيكا، لكن تحرير الودائع الليبية يعيد إلى الواجهة كل تفاصيل الصراع الدولي بشأن الثروات الليبية، إضافة للملفات السياسية المعقدة التي تحكم الواقع الليبي، فمن ينتقد هذا القرار يستند إلى عدة مسائل أساسية يمكن ملاحظتها وفق النقاط التالية:
- الافتقار إلى الشفافية والحوكمة
يشكل سجل المؤسسة الليبية للاستثمار حالة من عدم بالثقة، حيث عانت المؤسسة لسنوات من مسائل سوء الإدارة والفساد وضعف الضوابط الداخلية.
وهيئة الاستثمار الليبية والحكومة الليبية الحالية لا تمتلكان الخبرة اللازمة لحماية هذه الأموال، وتحرير الأصول الليبية يتطلب أطر حوكمة قوية بالدرجة الأولى، والوصول إليها قبل هذا الإجراء يؤدي إلى المزيد من النزيف المالي.
عمليا، فإن قضية الحوكمة في ليبيا معقدة بسبب انقسام الحكومة الليبية، وتنافس الأطراف السياسية إضافة لفوضى التشكيلات المسلحة في الغرب الليبي، فغياب حكومة موحدة وخاضعة للمساءلة يزيد من خطر إساءة استخدام هذه الأصول أو اختلاسها، في وقت لا يقدم تاريخ هيئة الاستثمار الليبية صورة مطمئنة نتيجة التعاملات الغامضة التي تؤدي لتعميق المخاوف من الاستغلال المحتمل.
- التلاعب والاستغلال الخارجي
يعكس امتناع روسيا عن التصويت في الأمم المتحدة مخاوف أوسع نطاقاً بشأن التدخل الخارجي، حيث سلط سفير موسكو لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، الضوء على أن القرار لا يضمن الشفافية أو يحمي سيادة ليبيا من الجهات الفاعلة الأجنبية، وتخشى روسيا أن يستخدم اللاعبون الخارجيون أصول ليبيا لتعزيز أجنداتهم الخاصة، ما يؤدي إلى تفاقم عدم الاستقرار في البلاد.
هذا القلق ليس بلا أساس، فالتقارير الاستقصائية تكشف كيف تم سحب الأصول المجمدة لليبيا من قبل كيانات أجنبية، فعلى سبيل المثال، واجهت بلجيكا اتهامات بالسماح بتسريب أكثر من مليار يورو من الفوائد من الأصول الليبية إلى حسابات غير معروفة بين عامي 2012 و2017،ومثل هذه الحوادث تغذي المخاوف من أن الإفراج عن الأموال دون رقابة صارمة يدعو إلى المزيد من الاستغلال الدولي.
- التسليح باستخدام الأصول
يضيف الوضع الأمني المتقلب في ليبيا درجة جديدة من التعقيد، ولا يمكن استبعاد احتمال أن الأصول غير المجمدة ستذهب نحو الميليشيات أو الشبكات الإجرامية، حيث كشف تقرير للأمم المتحدة في عام 2018 عن حالات مارست فيها الجماعات المسلحة السيطرة على المؤسسات المالية، وسحبت الأموال لتمويل الصراعات، وضمان عدم وقوع هذه الأصول في الأيدي الخطأ تطلب مراقبة دقيقة فشل المجتمع الدولي في تحقيقها.
روسيا: موقف تحذيري
يمكن اعتبار امتناع روسيا عن التصويت على القرار بمثابة تأكيد ضمني لكافة المخاوف، حيث تركزت انتقادات موسكو على مسائل الافتقار إلى الضمانات لسيادة ليبيا وشفافيتها.
وأكد الكرملين على الحاجة إلى إطار قانوني قوي لمنع الاستغلال الأجنبي وضمان استخدام الأموال لأغراض تنموية مشروعة، وتمتد مخاوف روسيا أيضاً إلى السياق الجيوسياسي الأوسع، وترك تدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا عام 2011 الذي انتقدته موسكو منذ فترة طويلة؛ البلاد في حالة من الفوضى، وترى روسيا أن القرار الحالي يخاطر بإدامة دورة التدخل الخارجي التي ابتليت بها ليبيا منذ سقوط الرئيس معمر القذافي.
في المقابل طرح المسؤولون والخبراء الليبيون مخاوف مماثلة، فانتقد رئيس الهيئة الليبية للاستثمار التابعة لمجلس النواب أشرف بدر، القرار بسبب توقيته الغامض، وتطرق أيضاً الى القرار الذي اتخذه البرلمان البلجيكي مؤخراً، واعتبر أنه سيفرض على ليبيا آليات تنفيذية، وحذر من أنه في غياب الرقابة البرلمانية فإن هذه الخطوة تعرض أصول ليبيا للخطر، ما يحول كل مزايا تحرير الودائع إلى كارثة اقتصادية.
والتشكيك بقرار الأمم المتحدة يعكس صورة قوية للواقع السياسي، حيث أن الأصول المجمدة كانت بمثابة ضمانة ضد الفساد وسوء الإدارة، وهناك خشية من أن يؤدي رفع التجميد عنها قبل الأوان إلى فتح الباب أمام النهب المنهجي، كما حدث خلال محاولات سابقة للوصول إلى هذه الأموال.
التداعيات الأوسع نطاقاً
تمتد تداعيات هذا القرار إلى ما هو أبعد من حدود ليبيا، فالإدارة العالمية لصناديق الثروة السيادية في ظل العقوبات التي تفرضها الأمم المتحدة تخضع للتدقيق، وهناك عيوب منهجية في آليات الرقابة التي تسمح للمؤسسات المالية في البلدان المضيفة باستغلال مثل هذه الأصول، وتكشف التحقيقات في البنوك البلجيكية عن تحويل مليارات الدولارات من الفوائد من الأصول المجمدة لليبيا، ما يثير تساؤلات حول مساءلة الدول المضيفة، والقرار يشكل سابقة لإدارة الأصول في الدول غير المستقرة سياسياً، وعدم تطبيق صارم للشفافية والمساءلة، يعرض المجتمع الدولي لخطر إدامة دورات الفساد وسوء الإدارة في بيئات ما بعد الصراع.
عمليا، فإن القرار يحتاج بالدرجة الأولى إلى تعزيز الحوكمة بحيث تخضع المؤسسة الليبية للاستثمار لمراجعة شاملة لإثبات مصداقيتها، إضافة لضمان الرقابة والمساءلة.
ويجب على البرلمان الليبي أن يلعب دوراً مركزياً في الإشراف على إدارة الأصول، ويجب تعيين هيئات مراقبة دولية مستقلة لضمان استخدام الأموال بشكل مناسب، وهذه الرقابة يمكن أن تتم عبر رفع التجميد عن الأصول على مراحل، بشرط تحقيق تحسن ملموس في الحوكمة والاستقرار، وكل مسائل الحوكمة والشفافية لا يمكن أن تتم دول معالجة الانقسامات السياسية وحل الصراعات الداخلية في ليبيا أمر بالغ الأهمية.
ويمثل قرار الأمم المتحدة بشأن رفع التجميد عن أصول ليبيا توازنا دقيقا بين الأمل والخطر، ففي حين يوفر مساراً للتعافي الاقتصادي، فإن مخاطر سوء الإدارة والاستغلال الخارجي والمزيد من زعزعة الاستقرار تظهر بقوة كتحد فوي أمام تحرير الأصول الليبية.
ويسلط امتناع روسيا عن التصويت الضوء على الحاجة إلى الحذر والتخطيط الدقيق لمنع تكرار الأخطاء الماضية، فلكي تستفيد ليبيا من هذا الأمر يتعين على المجتمع الدولي والسلطات الليبية إعطاء الأولوية للشفافية والوحدة والمساءلة على المصلحة الشخصية.
بقلم : نضال الخضري
نيجيريا تعتذر لليبيا عن حادثة المنتخب