تحول الإفراج عن آمر جهاز الشرطة القضائية الليبية، أسامة نجيم، إلى فضيحة دولية، حيث يخضع الآن القضاء الإيطالي لتحقيق موسع حول ملابسات القرار الذي خلق مناخاً من عدم الثقة بالجهاز القضائي.
جاء إفراج السلطات الإيطالية عن نجيم ليكشف تدخل السلطة السياسية بأجهزة القضاء، فأسامة نجيم المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، تم الإفراج عنه بعد يومين فقط من احتجازه، وبشكل يؤكد عدم التزام إيطاليا بالتعاون مع المحكمة الدولية، ويطرح طبيعة العلاقة الهشة بين المؤسسات الدولية والسلطة الوطنية في أوروبا عموماً.
الشكوك حول الاعتقال والإفراج
تم اعتقال أسامة نجيم في تورينو بإيطاليا بتاريخ 18 يناير 2025؛ بعد مذكرة توقيف دولية صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، وجاء اعتقاله خلال حضوره مباراة كرة قدم وبشكل يؤشر إلى حرية الحركة لدية، وضمانات بعدم اعتقاله رغم أن التهم الموجهة إليه تتعلق بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، من بينها التعذيب والعنف الجنسي والإعدامات خارج نطاق القضاء داخل سجن معيتيقة في طرابلس، ورغم التبريرات الإيطالية بأن الإفراج عنه نتيجة “أخطاء إجرائية”، لكنه في العمق يعود إلى آلية سياسية متبعة في النظر إلى المسائل المرتبطة بالجنائية الدولية، فالإفراج عنه يطرح مسألتين أساسيتين:
- الأولى أن مسألة الاعتقال جاءت خارج إرادة السلطة السياسية، فهو دخل بشكل عادي إلى الأراضي الإيطالية وبعلم مسبق من السلطات المختصة، وجاء احتجازه ضمن سيناريو يظهر الدوافع سياسية وراء مسألة الإفراج، وعودته إلى ليبيا على متن طائرة تابعة لجهاز الاستخبارات الإيطالي، يعطي تفسيراً واضحاً إلى أن العلاقات الأمنية تجاوزت كافة الاعتبارات الخاصة بالسلطة القضائية الإيطالية.
- المسألة الثانية أن مسألة الإفراج عنه هي ورقة سياسية تم وضعها بشكل واضح وصريح أمام السلطات الليبية في طرابلس، فالثمن الخاص للتغاضي عن اعتقاله ستتحمل تكاليفه حكومة الوحدة الوطنية المنتهية الولاية برئاسة عبد الحميد الدبيبة.
عملياً فإن التجاوز الذي قامت به إيطاليا تجاه المحكمة الجنائية الدولية شكل قضية خاصة أمام الرأي العام الإيطالي والمؤسسات السياسية التي تابعت الأمر باعتباره تجاوزاً كاملاً لكل الالتزامات السياسية للحكومة الإيطالية.
فضيحة تلاحق رئيسة الوزراء الإيطالية
أدى قرار الإفراج عن نجيم إلى فتح تحقيق واسع في إيطاليا، شمل رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، بالإضافة إلى عدد من المسؤولين البارزين، بينهم وزير العدل كارلو نورديو ووزير الداخلية ماتيو بيانتيدوسي، ويركز التحقيق على كشف الدوافع وراء الإفراج، وذلك للتأكد من وجود تدخل سياسي أو اتفاق غير معلن بين الحكومة الإيطالية والسلطات الليبية، خصوصاً أن إيطاليا ترتبط بمصالح استراتيجية في ليبيا، لا سيما في مجالي الطاقة والهجرة.
ووصفت ميلوني، عبر فيديو وهي تدافع عن نفسها، الاتهامات بأنها “محاولة لاستهدافها سياسياً”، مشيرة إلى أن المحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرة الاعتقال في توقيت مشبوه، موضحة أن نجيم زار ثلاث دول أوروبية قبل وصوله إلى إيطاليا، وأن المحكمة الجنائية الدولية لم تصدر مذكرة اعتقاله إلا عند وصوله إلى الأراضي الإيطالية، كما أشارت إلى أن قرار الترحيل كان لأسباب أمنية، وأنه تم اتباع الإجراءات المعتادة في مثل هذه الحالات.
وأثارت قضية نجيم انتقادات دولية واسعة، خاصة من قبل منظمة “هيومن رايتس ووتش”، التي اتهمت إيطاليا بـ”حماية مجرمي الحرب” والتنصل من التزاماتها تجاه المحكمة الجنائية الدولية، حيث رفضت إيطاليا تنفيذ مذكرات التوقيف الدولية أيضاً ضد نتنياهو الذي يُتهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة، وبررت الحكومة الإيطالية قرارها بأن نتنياهو يتمتع بحصانة رسمية، ما أثار جدلاً واسعاً، في خطوة تعكس تحفظاتها المستمرة على قرارات المحكمة الجنائية الدولية.
ففي مايو الماضي، تحفظت إيطاليا على طلب المدعي العام للمحكمة بإصدار مذكرات اعتقال ضد نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت، واستمرت الحكومة الإيطالية في نفي الاتهامات الموجهة لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب، على الرغم من توفر أدلة قوية وثقتها منظمات دولية مرموقة مثل هيومن رايتس ووتش والأمم المتحدة، ما يضع إيطاليا في موقف متناقض مع الجهود الدولية لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات في النزاعات المسلحة.
ليبيا بين الإفلات من العقاب والعدالة المؤجلة
قضية أسامة نجيم تعكس تحديات أوسع تتعلق بسيادة القانون في ليبيا، حيث لا تزال الميليشيات تسيطر على مؤسسات الدولة في غرب البلاد، ما يجعل المساءلة أمرا صعب التحقيق، فمنذ سقوط نظام القذافي في 2011، انتشرت المجموعات المسلحة التي باتت تتحكم في السجون والمراكز الأمنية، مستخدمة نفوذها لقمع المعارضين وفرض أجنداتها الخاصة.
ونجيم الذي بدأ حياته كسائق سيارة قبل أن يصبح شخصية بارزة في جهاز الأمن الليبي، جسد هذا التحول في المشهد الليبي، حيث اعتمدت الحكومة في طرابلس في تثبيت سلطتها على نفوذ الميليشيات، وشكل شبكة مصالح متبادلة مع قيادات مطلوبة على المستوى الدولي، فنجيم وخلال ترأسه لسجن معيتيقة، قام بانتهاكات مروعة لحقوق الإنسان، جعلت منه هدفا لتحقيقات المحكمة الجنائية الدولية، ورغم أنه الآن خارج قبضة المحكمة الجنائية، إلا أن قضيته على المستويين السياسي والجنائي لم تنتهِ بعد، فالتحقيقات في إيطاليا تفتح المجال لمساءلة المسؤولين عن الإفراج عنه، في حين أن الضغوط الدولية على ليبيا تتزايد لتسليمه، كما أن هذا الحادث يدفع المحكمة الجنائية الدولية إلى اتخاذ خطوات أكثر صرامة لضمان تنفيذ مذكرات التوقيف مستقبلا.
ودعت الأمم المتحدة السلطات الليبية إلى إعادة اعتقال نجيم وتسليمه إلى لاهاي لضمان العدالة، في وقت طالبت المحكمة الجنائية الدولية بتفسير من إيطاليا قائلة إنه لم تتم استشارتها في قرار الإفراج، وقال وزير الداخلية أمام البرلمان الأسبوع الماضي إن نجيم تم ترحيله سريعاً “لأسباب تتعلق بأمن الدولة”، بينما سخر زعماء المعارضة من تفسيره، ومن المقرر أن يلقي كل من بيانتيدوزي ونورديو كلمة أمام البرلمان الأربعاء لتقديم معلومات أوفى عما حدث في قضية أدت إلى توتر العلاقات بين روما والمحكمة الجنائية الدولية، كما طالب فادي العبد الله، المتحدث باسم المحكمة الجنائية الدولية رداً على سؤال بشأن التحقيق الإيطالي، إن المحكمة لا تعلق على الإجراءات القضائية داخل الدول.
لكن على أرض الواقع، لا تزال هناك تساؤلات معلقة: هل ستتمكن المحكمة من تنفيذ العدالة في قضية نجيم؟ أم أن هذه القضية ستصبح مثالاً آخر على قدرة المصالح السياسية في عرقلة مسار العدالة الدولية؟ والأمر الواضح أن قضية نجيم ستستمر ولفترة طويلة وستبقى اختباراً حاسماً لمدى تعهد الدول بتنفيذ التزاماتها الدولية، ولقدرة المحكمة الجنائية الدولية على فرض إرادتها في عالم تهيمن عليه المصالح السياسية.
بقلم نضال الخضري
25 دولة تشارك في معرض تونس الدولي للكتاب